فصل: حوادث سنة أربع وخمسين ومائتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر موت محمد بن عبد الله بن طاهر:

وفي ليلة أربع عشرة من ذي الحجة انخسف القمر جميعه؛ ومع انتهاء خسوفه مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وكانت علته التي مات بها قروحاً أصابته في حلقه ورأسه فذبحته، وكانت تدخل فيها الفتايل.
ولما اشتد مرضه كتب إلى عماله وأصحابه بتفويض ما إليه من الولاية إلى أخيه عبيد الله بن طاهر، فلما مات تنازع ابنه وأخوه عبيد الله الصلاة عليه، فصلى عليه ابنه، وتنازع عبيد الله وأصحاب طاهر، حتى سلوا السيوف، ورموا بالحجارة، ومالت العامة مع أصحاب طاهر، وعبر عبيد الله إلى داره بالجانب الشرقي، فعبر معه القواد لاستخلاف محمد، فكان أوصاه على أعماله، ثم وه المعتز بعد ذلك الخلع إلى عبيد الله، فأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع بخمسين ألف درهم.

.ذكر الفتنة بأعمال الموصل:

ي هذه السنة كانت حرب بين سليمان بن عمران الأزدي وبين عنزة.
وسببها أن سليمان اشترى ناحية من المرج، فطلب منه إنسان من عنزة اسمه برهونة الشفعة، فلم يجبه إليهأن فسار برهونة إلى عنزة، وهم بين الزابين، فاستجار بهم وببني شيبان، واجتمع معه جمع كثير، ونهبوا الأعمال فأسرفوا.
وجمع سليمان لهم بالموصل، وسار إليهم، فعبر الزاب، وكانت بينهم حرب شديدة، وقتل فيها كثير، وكان الظفر لسليمان، فقتل منهم بباب شمعون مقتلة عظيمة، وأدخل من رؤوسهم إلى الموصل أكثر من مائتي رأس، فقال حفص بن عمروالباهلي قصيدة يذكر فيها الوقعة أولها:
شهدت مواقفنا نزار فأحمدت ** كرات كل سميدع قمقمام

جاؤوا وجئنا لا نفيتم صلنا ** ضرباً يطيح جماجم الأجسام

وهي طويلة.
وفيها كان أيضاً بأعمال الموصل فتنة وحرب قتل فيها الحباب بن بكير التليدي؛ وسبب ذلك أن محمد بن عبد الله بن السيد بن أنس التليدي الأزدي كان اشترى قريتين كان رهنهما محمد بن علي التليدي عنده، وكره صاحبهما أن يشتريهمأن فشكا ذلك إلى الحباب بن بكير، فقال الحباب له: ائتني بكتاب من بغا لأمنع عنهما؛ وأعطاه دواب ونفقة، وانحدر إلى سر من رأى، وأحضر كتاباً من بغا إلى الحباب يأمره بكف يد محمد بن عبد الله بن السيد عن القريتين، ففعل ذلك، وأرسل إليهما من منع محمدأن فجرت بينهم مراسلات واصطلحوا.
فبيمنا محمد بن عبد الله بن السيد والحباب بالبستان على شراب لهمأن ومعهما قينة، قال لها الحباب غني بهذا الشعر:
متى تجمع القلب الزكي وصارماً ** وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ** مراغمة ما دام للسيف قائم

ولا صلح حتى تقرع البيض بالقنا ** ويضرب بالبيض الخفاف الجماجم

وافترقا وقد حقد كل واحد منهما على صاحبه، وأعاد الحباب التوكيل بالقريتين، فجمع محمد جمعأن وترددت الرسل في الصلح، وأجابا إلى ذلك، وفرق محمد جمعه، فأبلغ محمد أن الحباب قال: لوكان مع محمد أربعة لما أجاب إلى الصلح، فغضب لذلك، وجمع جمعاً كثيرأن وسار مبادراً إلى الحباب، فخرج إليه الحباب غير مستعد، فاقتتلوا فقتل الحباب ومعه ابن له وجمع من أصحابه، وكان ذلك في ذي القعدة من هذه السنة.

.ذكر عدة حوادث:

فيها نفي أبو أحمد بن المتوكل إلى البصرة، ثم رد إلى بغداد، فانزل في الجانب الشرقي بقصر دينار، ونفي أيضاً علي بن المعتصم إلى واسط، ثم رد إلى بغداد. وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة؛ وحج بالناس عبد الله ابن محمد بن سليمان الزينبي. وفيها غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية، فانهزم وأسر.
وفيها التقى موسى بن بغا والكوكبي العلوي عند قزوين، فانهزم الكوكبي ولحق بالديلم، وكان سبب الهزيمة أنهم اصطفوا لقتال جعل أصحاب الكوكبي تروسهم في وجوههم، فيتقون بها سهام أصحاب موسى، فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع فعلهم، أمر بما معه من النفط أن يصب في الأرض، ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم، ففعلوا ذلك، فظن الكوكبي وأصحابه أنهم قد انهزموأن فتبعهم، فلما توسطوا النفط أمر موسى بالنار فألقيت فيه، فالتهب من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم، فانهزموأن فتبعهم موسى، ودخل قزوين.
وفيها في ذي الحجة لقي مساور الخارجي عسكراً لخليفة مقدمهم حطرمس بناحية جلولاء، فهزمه مساور.
وفيها سار جيش المسلمين من الأندلس إلى بلاد المشركين، فافتتحوا حصون جرنيق، وحاصروا فوتب وغلب على اكثر أسوارها.

.ذكر ابتداء دولة يعقوب الصفار وملكه هراة وبوشنج:

وكان يعقوب بن الليث وأخوه عمرويعملان الصفر بسجستان، ويظهران الزهد والتقشف. وكان في أيامهما رجل من أهل سجستان يظهر التطوع بقتال الخوارج، يقال له: صالح المطوعي، فصحبه يعقوب، وقاتل معه، فحظي عنده، فجعله صالح مقام الخليفة عنه، ثم هلك صالح، وقام مقامه إنسان آخر اسمه درهم، فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح قبله.
ثم إن صاحب خراسان احتال لدرهم لما عظم شأنه وكثر أتباعه، حتى ظفر به وحمله إلى بغداد فحبسه بهأن ثم أطلق، وخدم الخليفة بغداد.
وعظم أمر يعقوب بعد اخذ درهم، وصار متولي أمر المتطوعة مكان درهم، وقام بحاربة الشراة، فظفر بهم، وأكثر القتل فيهم، حتى كاد يفنيهم، وخرب قراهم، وأطاعه أصحابه بمكره، وحسن حاله، ورأيه، طاعة لم يطيعوها أحداً كان قبله، واشتدت شوكته، فغلب على سجستان، وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتبه، وصدر عن أمره، وأظهر أنه هوأمره بقتال أتباعه، فخرج عن حد طلب الشراة، وصار يتناول أصحاب أمير خراسان للخليفة.
ثم سار من سجستان إلى هراة، من خراسان، هذه السنة، ليملكهأن وكان أمير خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وعامله على هراة محمد بن أوس الأنباري، فخرج منها لمحاربة يعقوب في تعبئة حسنة، وبأس شديد، وزي جميل، فتحاربا واقتتلا قتالاً شديدأن فانهزم ابن أوس، وملك يعقوب هراة وبوشنج، وصارت المدينتان في يده، فعظم أمره حينئذ، وهابه أمير خراسان وغيره من أصحاب الأطراف.

.حوادث سنة أربع وخمسين ومائتين:

.ذكر مقتل بغا الشرابي:

وفيها قتل بغا الشرابي؛ وكان سبب قتله أنه كان يحرض المعتز على المسير إلى بغداد، والمعتز يأبى ذلك ويكرهه، فاتفق أن بغا اشتغل بتزويج ابنته من صالح بن وصيف، فركب المعتز ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرأن إلى بابكيال التركي ومن معه من المنحرفين عن بغا.
وكان سبب انحرافه عنه أنهما كانا على شراب لهمأن فعربد أحدهما على الآخر، فاختفى بابكيال من بغأن فلما أتاه المعتز اجتمع معه أهل الكرخ وأهل الدور ثم أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرأن وبلغ ذلك بغأن فخرج في غلمانه وهم زهاء خمس مائة إنسان من ولده وقواده، فسار إلى السن، فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنهم خرجوا بغير مضارب ولا ما يلبسونه في البرد، وأنهم في شتاء، فأتاه بعض أصحابه وأخبره بقولهم، فقال: دعني حتى أنظر الليلة.
فلما جن عليه الليل ركب في زورق، ومعه خادمان، وشيء من المال الذي صحبه، وكان قد صحه تسع عشرة بدرة دنانير، ومائة بدرة دراهم، ولم يحمل معه سلاحأن ولا سكينأن ولا شيئأن ولم يعلم به أحد من عسكره.
وكان المعتز في غيبة بغأن لا ينام إلا في ثيابه وعليه السلاح، فسار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل، فبعث الموكلون بالجسر ينظرون من هو، فصاح بالغلام فرجع، وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة من الموكلين، فوقف لهم بغا وقال: أنا بغأن إما أن تذهبوا معي إلى صالح بن وصيف، وإما أن تصيروا معي حتى أحسن إليكم. فتوكل به بعضهم، وأرسلوا إلى المعتز بالخبر، فأمر بقتله، فقتل، وحمل رأسه إلى المعتز، ونصب بسامرأن وبغداد، وأحرقت المغاربة جسده، وكان أراد أن يختفي عند صالح بن وصيف، فإذا اشتغل الناس بالعيد، وكان قد قرب، وخرج هووصالح ووثبوا بالمعتز.

.ذكر ابتداء حال أحمد بن طولون:

كانت ديار مصر قد أقطعها بابكيال، وهومن أكابر قواد الأتراك، وكان مقيماً بالحضرة، واستخلف بها من ينوب عنه بها.
وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضاً من الأتراك، وقد نشأ هو، بعد والده، على طريقة مستقيمة، وسيرة حسنة، فالتمس بابكيال من يستخلفه بمصير، فأشير عليه بأحمد بن طولون، لما ظهر عنه من حسن السيرة، فولاه وسيره إليها.
وكان بها ابن المدبر على الخراج، وقد تحكم في البلد، فلما قدمها أحمد كف يد ابن المدبر، واستولى على البلد؛ وكان بابكيال قد استعمل أحمد بن طولون على مصر وحدها سوى باقي الأعمال كالإسكندرية وغيرهأن فلما قتل المهدي بابكيال وصارت مصر لياركوج التركي، وكان بينه وبين أحمد ابن طولون مودة متأكدة استعمله على ديار مصر جميعها، فقوي أمره، وعلا شأنه ودامت أيامه، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم} الحديد: 21.

.ذكر وقعة بين مساور الخارجي وبين عسكر الموصل:

كان مساور بن عبد الحميد قد استولى على اكثر أعمال الموصل وقوي أمره، فجمع له الحسن بن أيوب بن أمد بن عمر بن الخطاب العدوي التغلبي، وكان خليفة أبيه بالموصل، عسكراً كثيراً منهم حمدان بن حمدون، جد الأمراء الحمدانية، وغيره، وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب، فتأخر عنه مساور عن موضعه، ونزل بموضع يقال له وادي الذيات، وهوواد عميق، فسار الحسن في طلبه، فالتقوا في جمادى الأولى، واقتتلوأن واشتد القتال، فانهزم عسكر الموصل، وكثر القتل فيهم، وسقط كثير منهم في الوادي فهلك فيه أكثر من القتلى، ونجا الحسن فوصل إلى حزة من أعمال إربل اليوم، ونجا محمد بن علي بن السيد، فظن الخوارج أنه الحسن فتبعوه، وكان فارساً شجاعأن فقاتلهم، فقتل، واشتد أمر مساور وعظم شأنه وخافه الناس.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي أبوأحمد بن الرشيد، وهوعم الواثق والمتوكل، وعم أبي المنتصر والمستعين والمعتز، وكان معه من الخلفاء إخوته الأمين، والمأمون، والمعتصم، وابنا أخيه الواثق والمتوكل ابنا المعصتم، وأبناء ابني أخيه، وهم المنتصر، والمستعين، والمعتز.
وفيها في جمادى الآخرة توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب، عليه السلام، بسامرأن وهوأحد من يعتقد الإمامية إمامته، وصلى عليه أبوأحمد بن المتوكل، وكان مولده سنة اثنتي عشرة ومائتين.
وفيها عقد صالح بن وصيف لديوداد على ديار مصر، وقنسرين والعواصم.
وفيها أوقع مفلح بأهل قم، فقتل منهم مقتلة عظيمة.
وفيها عاود أهل ماردة من بلاد الخلاف على محمد بن محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، وسبب ذلك أنهم خالفوا قديماً على أبيه، فظفر بهم، وتفرق كثير من أهلهأن فلما كان الآن تجمع إليها من كان فارقها، فعادوا إلى الخلاف والعصيان، فسار محمد إليهم، وحصرهم، وضيق عليهم، فانقادوا إلى التسليم والطاعة، فنقلهم وأموالهم إلى قرطبة، وهدم سور ماردة، وحصن بها الموضع الذي كان يسكنه العمال دون غيرهم.
وفيها هلك أردون بن ردمير، صاحب جليقية من الأندلس، وولي مكانه أدفونش، وهوابن اثنتي عشرة سنة.
وفيها انكسف القمر كسوفاً كلياً لم يبق منه شيء ظاهر.
وفيها كان ببلاد قحط شديد، تتابع عليهم من سنة إحدى وخمسين إلى سنة خمس وخمسين، وكشف الله عنهم.
وفيها وصل دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي إلى الأهواز، وجند يسابور، وتستر فجبى بها مائتي ألف دينار، ثم انصرف، وكان والده أمره بذلك.
وفي رمضان سار نوشرى إلى مساور الشاري، فلقيه، فهزمه، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة.
وحج بالناس علي بن الحسين بن إسماعيل بن عباس بن محمد.
وفيها توفي أبوالوليد بن عبد الملك بن قطن النحوي القيرواني بهأن وكان إماماً في النحوواللغة، وإماماً بالعربية، قيل مات خمس وخمسين وهوأصح.

.حوادث سنة خمس وخمسين ومائتين:

.ذكر استيلاء يعقوب بن الليث الصفار على كرمان:

وفيها استولى يعقوب بن الليث الصفار على كرمان؛ وسبب ذلك أن علي ابن الحسين بن شبل كان على فارس، فكتب إلى المعتز يطلب كرمان، ويذكر عجز الطاهرية، وأن يعقوب قد غلبهم على سجستان، وكان علي بن الحسين قد تباطأ بحمل خراج فارس، فكتب إليه المعتز بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب ابن الليث بولايتها أيضأن يلتمس إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤونة الهالك عنه، وينفرد بالآخر.
وكان كل واحد منهما يظهر طاعة لا حقيقة لهأن والمعتز يعلم ذلك منهمأن فأرسل علي بن الحسين طوق بن المغلس إلى كرمان، وسار يعقوب إليهأن فسبقه طوق واستولى عليهأن وأقبل يعقوب حتى بقي بينه وبين كرمان مرحلة، فأقام بها شهرين لا يتقدم إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهر الارتحال إلى سجستان، فارتحل مرحلتين، وبلغ طوقاً ارتحاله فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك كرمان، فوضع آلة الحرب، وقعد للأكل والشرب والملاهي.
واتصل يعقوب إقبال طوق على الشرب، فكر راجعأن فطوى المرحلتين في يوم واحد، فلم يشعر طوق إلا بغبرة عسكره، فقال: ما هذا؟ فقيل: غبرة المواشي، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب، فأحاط به وأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا لقوم! فمروا هاربين، وخلوا كل ما لهم، وأسر يعقوب طوقاً.
وكان علي بن الحسين قد سير مع طوق في صناديق قيوداً ليقيد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أطوقه وأسورة ليعطيها أهل البلاء من أصحاب نفسه، فلما غمن يعقوب عسكرهم رأى ذلك، فقال: ما هذا ياطوق؟ فأخبره، فأخذ الاطوقة والأسورة فأعطاها أصحابه، وأخذ القيود والأغلال فقيد بها أصحاب علي! ولما أخرج يد طوق ليضع فيها الغل رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنهأن فقال: أصابتني حرارة فقصدتها. فأمر بنزع خف نفسه، فتساقط منه كسر خبز يابسة، فقال: يا طوق! هذا خفي لم أنزعه منذ شهرين من رجلي، وخبزي في خفي منه آكل، وأنت جالس في الشرب؟ ثم دخل كرمان وملكها مع سجستان.

.ذكر ملك يعقوب فارس:

وفيهأن رابع جمادى الأولى، ملك يعقوب بن الليث فارس، ولما بلغ علي بن الحسين بن شبل بفارس ما فعله يعقوب بطوق أيقن بمجيئه إليه، وكان علي بشيراز، فجمع جيشه وسار إلى مضيق خارج شيراز، من أحد جانبيه جبل لا يسلك، ومن الجانب الآخر بهر لا يخاض، فأقام على رأس المضيق، وهوضيق ممره لا يسلكه إلا واحد بعد واحد، وهوعلى طرف البر، وقال: إن يعقوب لا يقدر على الجواز إلينا فرجع.
وأقبل يعقوب حتى دنا من ذلك المضيق فنزل على ميل منه، وسار وحده ومعه رجل آخر فنظر إلى ذلك المضيق والعسكر وأصحاب علي بن الحسين يسبونه وهوساكت، ثم رجع إلى أصحابه؛ فلما كان الغد الظهر سار بأصحابه حتى صار إلى طرف المضيق ممايلي كرمان، فأمر أصحابه بالنزول وحط الأثقال، ففعلوأن وركبوا دوابهم عريأن واخذ كلباً كان معه فألقاه في الماء، فجعل يسبح إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وكان علي بن الحسين وأصحابه قد ركبوا ينظرون إلى فعله، ويضحكون منه.
وألقى يعقوب نفسه وأصحابه في الماء على خيلهم، وبأيديهم الرماح، يسيرون خلف الكلب، فلما رأى علي بن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة النهر تحير في أمره، وانتقض عليه تدبيره، وخرج أصحابه يعقوب من وراء أصحاب علي، فلما خرج أوائلهم هرب أصحابه إلى مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون، إذا خرج يعقوب وأصحابه، بين جيش يعقوب والمضيق، ولا يجدون ملجأن فانهزموأن فسقط علي بن الحسين عن دابته، كبا به الفرس، فاخذ أسيرأن وأتي به إلى يعقوب، فقيده فلما أصبح نهب أصحاب دار علي ودور أصحابه، وأخذ ما في بيوت الأموال وبي الخراج ورجع إلى سجستان.
وقيل إنه جرى بين يعقوب الصفار وبين علي بن الحسين، بعد عبوره النهر، حرب شديدة، وذلك أن علياً كان قد جمع عنده جمعاً جمعاً كثيراً من الموالي والأكراد وغيرهم، بلغت عدتهم خمسة عشر ألفاً بين فارس وراجل، فعبأ أصحابه ميمنة وميسرة، وقلباً ووقف هوفي القلب وأقبل الصفار فعبر النهر، فلما صار مع علي على أرض واحدة حمل هووعسكره حملة واحدة على عسكر علي، فثبتوا لهم، ثم حمل ثانية لهم عن مواقفهم، وصدقهم في الحرب، فانهزموا على وجوههم لا يلوي أحد على أحد.
وتبعهم علي يصيح بهم، ويناشدهم الله ليرجعوأن أوليقفوأن فلم يلتفت إليه أحد وقتل الرجالة قتلاً ذريعأن وأقبل المنهزمون إلى باب شيراز مع العصر، فازدحموا في الأبواب، فتفرقوا في نواحي فارس، وبلغ بعضهم في هزيمته إلى الأهواز.
فلما رأى الصفار ما لقوا من القتل أمر بالكف عنهم، ولولا ذلك لقتلوا عن آخرهم. وكان القتل خمسة آلاف قتي، وأصاب علي بن الحسين ثلاث جراحات، ثم أخذ أسيراً لما عرفوه، ودخل الصفار إلى شيراز، وطاف بالمدينة، ونادى بالأمان فأطمأن الناس، وعذب علياً بأنواع العذاب، وأخذ من أمواله ألف بدرة، وقيل أربع مائة بدرة، ومن السلاح والأفراس، وغير ذلك ما لا يحد، وكتب إلى الخليفة بطاعته، وأهدى له هدية جليلة منها عشرة بيزان بيض، وباز أبلق صيني، ومائة من مسك وغيرها من الطرائف، وعاد إلى سجستان ومعه علي، وطوق، تحت الأستظهار، فلما فارق بلاد فارس أرسل الخليفة عمالة إليها.

.ذكر خلع المعتز وموته:

وفيهأن في يوم الأربعاء لثلاث، بقين من رجب، خلع المعتز، لليلتين خلتا من شعبان ظهر موته.
وكان سبب خلعه أن الأتراك لما فعلوا بالكتاب ما ذكرناه، ولم يحصل منهم مال، ساروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل صالح بن وصيف، فلم يكن عنده ما يعطيهم، فزلوا معه إلى خمسين ألف دينار، فأرسل المعتز إلى أمه يسألها أن تعطيه مالاً ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء.
فلما رأى الأتراك أنهم لا يحصل لهم من المعتز شيء، ولا من أمه، وليس في بيت المال شيء، اتفقت كلمتهم، وكلمة المغاربة، والفراغنة، على خلع المعتز، فساروا إليه وصاحوأن فدخل إليه صالح، ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، وبابكيال في السلاح، فجلسوا على بابه، وبعثوا إليه أن اخرج إلينأن فقال: قد شربت أمس دواء، وقد أفرط في العمل، فإن كان أمر لا بد منه فليدخل بعضكم! وهويظن أن أمره واقف على حاله، فدخل إليه جماعة منهم، فجروه برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس في الدار فكان برفع رجلاً ويضع أخرى لشدة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهويتقي بيده، وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان.
وكانت أمه قد اتخذت في دارها سربأن فخرجت منه هي وأخت المعتز، وكانوا أخذوا عليها الطريق، ومنعوا أحداً يجوز إليهأن وسلموا المعتز إلى من يعذبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر، فمنعوه، ثم أدخلوه سردابأن وجصصوا عليه فمات، فلما مات اشهدوا على موته بني هاشم والقواد، وأنه لا أثر فيه، ودفنوه مع المنتصر.
وكانت خلافته من لدن بويع إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وكان عمره كله أربعاً وعشرين سنة؛ وكان أبيض، أسود الشعر، كثيفه، حسن العينين والوجه، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلاً؛ وكان مولده بسر من رأى، وكان فصيحأن فمن كلامه لما سار المستعين إلى بغداد، وقد أحضر جماعة للرأي، فقال لهم: أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقها؟ الهمج، العصاة، الأوغاد الذين لا مسكة بهم، ولا اختيار لهم، ولا تمييز معهم، قد زين لهم تقم الخطأ سوء أعمالهم، فهم الأقلون وإن كثروأن والمذمومون إذا ذكروأن وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش، وسد الثقور، وإبرام الأمور، وتدبير الأقاليم، إلا رجل قد تكاملت فيه خصال أربع: حزم يتقي به عند موارد الأمور حقائق مصادرهأن وعلم يحجزه عن التهور والتعزير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتهأن وشجاعة لا تفضها الملمات مع تواتر حوائجهأن وجود يهون تبذير الأموال عند سؤالهأن وسرعة مكافأة الإحسان، إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان، والاستعداد لحوادث إذ لا تؤمن حوادث الزمان.
وأما الاثنتان فإسقاط الحجاب عن الرعية، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية.
وأما الواحد فالتيقظ للأمور، وقد اخترت لهم رجلاً من موالي أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، ولا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما يلقاه، فهوكالحريش في أصل الإسلام إن حرك حمل، وإن نهش قتل؛ عدته عتيدة، ونعمته شديدة، يلقى الجيش في النفر القليل العديد، بقلب أشد من الحديد؛ طالب للثأر لا تفله العساكر، باسل البأس، ومقتضب الأنفاس، لا يعوزه ما طلب، ولا يفوته من هرب؛ واري الزناد مضطلع العماد، لا تشرهه الرغائب، ولا تعجزه النوائب، وإن ولي كفى، وإن قال وفى؛ وإن نازل فبطل، وإن قال فعل؛ ظله لوليه ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل، يفوق من ساماه، ويعجز من ناواه، ويتعب من جاراه، وينعش من والاه.

.ذكر خلافة المهتدي:

وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع لمحمد بن الواثق، ولقب بالمهتدي بالله؛ وكان يكنى أب عبد الله، وأمه رومية، وكانت تسمى قرب، ولم يقبل بيعة أحد، فأتي بالمعتز فخلع نفسه، وأقر بالعجز عما أسند إليه، وبالرغبة في تسليمها إلى ابن الواثق، فبايعه الخاصة والعامة.